فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في بناء القولين على مخالفة الظاهر:

قال ابن الخطيب واعلم أن كلا القولين أعني: كون مفعول {شَهِدَ} محذوفًا أو هو الشَّهر لا يتم إلاَّ بمخالفة الظاهر.
أما الأوَّل: فإنَّما يتم بإضمار زائدٍ، وأمَّا الثاني: فيوجب دخول التخصيص في الآية الكريمة وذلك لأنَّ شهود الشَّهْر حاصلٌ في حقِّ الصبيِّ والمجنون والمسافر، مع أنَّ لم يجل على واحدٍ منهم الصَّوم إلاَّ أنا بيَّنا في أُصُول الفِقْه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإضمار، فالتخصيص أولى، وأيضًا، فلأنَّا على القول الأول، لما التزمنا الإضمار لابد أيضًا من التزام التَّخْصيص؛ لأنَّ الصبيَّ والمجنون والمريض كلُّ واحدٍ منهم شهد الشَّهْرَ مع أنه لا يجبُ عليهم الصَّوم.
فالقول الأول: لا يتمشى إلاَّ مع التزام الإضمار والتَّخصيص.
والقول الثاني: يتمشى بمجرَّد التخصيص؛ فكان القول الثاني أولى، هذا ما عندي فيه، مع أن أكثر المُحَقِّقين كالواحديّ وصاحب الكشَّاف ذهبوا إلى الأوَّل.
قوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} تقدَّم معنى الإرادة واشتقاقها عند قوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ الله بهذا} [البقرة: 26].
وأَرَادَ يتعدَّى في الغالب إلى الأجرام بالباء وإلى المصادر بنفسه، وقد ينعكس الأمر؛ قال الشاعر: الطويل:
أَرَادَتْ عَرَارًا بِالهَوَانِ وَمَنْ يُرِدُ ** عَرَارًا لعَمْرِي بِالهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ

والباء في بِكُمْ قال أبو البقاء: لِلإلْصَاقِ، أي: يُلْصِقُ بكم اليُسْرَ، وهو من مجاز الكلام، أي: يريد الله بفِطْرِكُمْ في حال العذر اليُسْرَ، وفي قوله: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} تأكيدٌ؛ لأنَّ قبله {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} وهو كافٍ عنه.
وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثَّاب وابن هُرْمُز: {اليُسُر}، و{العُسُر} بضمّ السين، والضمُّ للإتباع؟ والظهر الأول؛ لأنه المعهود في كلامهم.
و{اليُسْرُ} في اللغة السُّهُولة، ومنه يقال للغنى والسَّعة: اليسار؛ لأنه يتسهل به الأمور واليد اليُسْرَى، قيل: تلي الفعال باليسر، وقيل إنه يتسهَّل الأمر بمعاونتها اليمنى.

.فصل في دحض شبهة للمعتزلة:

استدلُّوا بهذا الآية على أنَّ تكليف ما لا يطاق غير واقعٍ؛ لأنه تعالى لمَّا بيَّن أنه يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، فكيف يكلِّفهم ما لا يقدرون عليه.
وأُجيبوا: بأنَّ اللفظ المفرد، إذا دخل عليه الألف واللام لا يفيد العموم، ولو سلَّمنا ذلك لكنَّه قد ينصرف إلى المعهود السَّابق في هذا الموضع.
قوله: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ} في هذه اللام ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أنها زائدةُ في المفعول به؛ كالتي في قولك: ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، وأَنْ مُقَدَّرةً بعدها، تقديرهُ: {وَيُرِيدُ أَنْ تُكْمِلُوا العِدَّةَ}، أي: تكميل، فهو معطوفٌ على اليُسْر؛ ونحوهُ قولُ أبي صَخْرٍ: الطويل:
أُرِيدَ لاأَنسَى ذِكرَهَا فَكَأَنَّمَا ** تَخَيَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ طَرِيقِ

وهذا قولُ ابن عطية والزمخشري وأبي البقاء وإنَّما حَسُنَتْ زيادةُ هذه اللام في المَفعولِ- وإنْ كان ذلك إنَّما يكونُ إذا كان العاملُ فَرْعًا، أو تقدَّمَ المعمولُ- من حيث إنه لمَّا طال الفصلُ بين الفعلِ وبين ما عُطِفَ على مفعوله، ضَعُفَ بذلك تَعَدِّيه إليه، فَعُدِّيَ بزيادة اللام؛ قياسًا لِضَعْفه بطولِ الفصلِ ضَعْفِه بالتقديم.
الثاني: إنَّها لامُ التعليل، وليست بزائدةٍ، واختلف القائلون بذلك على ستةِ أوجه:
أحدها: أن يكونَ بعد الواوِ فعلٌ محذوفٌ وهو المُعَلَّل، تقدير: وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ فَعَلَ هَذَا، وهو قولُ الفراء.
الثاني- وقاله الزَّجَّاج- أن تكون معطوفةً على علَّة محذوفةٍ حُذِف معلولُها أيضًا تقديره: فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ؛ ليسهّل عليكم، ولِتُكْمِلُوا.
الثالث: أن يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقَّرًا بعد هذه العلةِ تقديرُه: ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ رَخَّصَ لكُمْ فِي ذَلِكَ ونسبه ابن عطيَّة لبعض الكوفيين.
الرابع: أنَّ الواو زائدةٌ، تقديرُه: يُرِيدُ اللَّه بِكُمْ كَذَا لِتُكْمِلُوا، وهذا ضَعِيفٌ جِدًا.
الخامس: أنْ يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدَّرًا بعد قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تُشْكُرُونَ}، تقديرُه: شَرَعَ ذلك، قاله الزمخشري، وهذا نصُّ كلامه قال: شَرَعَ ذَلِكَ، يعني جُملة ما ذلك من أمر الشاهد بصَوم الشَّهر، وأمر المُرَخَّص لهُ بمراعاة عدَّة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطرِ، فقوله: {وَلِتُكْمِلُوا} علَّةُ الأمر بمراعاة العدَّة و{لِتُكَبِّرُوا} علةُ ما عُلِمَ من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةٍ الفِطْر و{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علةُ الترخيص ولاتيسير، وهذا نوعٌ من اللَّفِّ لطيفُ المَسْلَكِ، لا يهتدي إلى تبيُّنه إلا النُقَّابُ من علماء البَيَانِ.
السادس: أن تكون الواوُ عاطفةً على علَّةٍ محذوفةٍ، التقديرُ: لتعملوا ما تعملو،، ولِتُكْمِلُوا، قاله الزمخشريُّ؛ وعلى هذا، فالمعلَّلُ هو إرادةُ التيسير.
واختصارُ هذه الأوجه: أنْ تكون هذه اللامُ علةً لمحذوفٍ: إمَّا قبلها، وإمَّا بعدها، أو تكونَ علةً للفعل المذكور قبلها، وهو {يُرِيدُ}.
القول الثالث: أنهَّا لام الأمر وتكونُ الواوُ قد عطفت جملةً أمريةً على جملةٍ خبريَّةٍ؛ فعلى هذا يكونُ من بابِ عطفِ الجملِ؛ وعلى ما قبلَهك يكونُ من عطف المفردات؛ كما تقدَّم تقريرُه، وهذا قولُ ابن عطيَّة، وضَعَّفه أبو حيان بوجهين:
أحدهما: أَنَّ أمرَ المخاطبِ بالمضارع مع لامِهِ لغةٌ قليلةٌ، نحو: لِتَقُمْ يَا زَيْدُ، وقد قرئ شَاذًّا: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] بتاء الخطاب.
والثاني: أن القُرَّاء أجمعُوا على كسر هذه اللام، ولو كانت للأمر، لجاز فيها الوجهان: الكسرُ والإسكانُ كأخواتها.
وقرأ الجمهورُ {وَلِتُكْمِلُوا} مخفَّفًا من أكْمَلَ، والهمزةُ فيه للتعدية، وقرأ أبو بكرٍ بتشديدِ الميم، والتضعيفُ للتعدية أيضًا؛ لأنَّ الهمزة والتضعيف يتعاقبان في التعدية غالبًا، والألفُ واللاَمُ في {العِدَّةِ} تَحْتَملُ وجهين:
أحدهما أنها للعهدِ، فيكونُ ذلك راجعًا على قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وهذا هو الظاهرُ.
والثاني: أنْ تكونَ للجنس، ويكونُ ذلك راجعًا على شهرِ رمضانَ المأمورِ بصَومهِ، ولامعنى: أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملًا في عِدَّته، سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين.
قال ابن الخطيب: إنما قال: {وَلِتُكْمِلُوا العِدّةَ} ولم يقل: ولِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ؛ لأنه لما قال: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّة} دخل تحته عدة أيَّام الشهر، وأيام القضاء، لتقدُّم ذكرهما جميعًا؛ ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلًا لعدد المضي، ولو قال: وَلِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ لدل على حكم الأداء فقط، ولم يدخل حكم القضاء.
واللامُ في {وَلِتُكَبِّرُوا} كهي في {وَلِتُكْمِلُوا} فالكلامُ فيها كالكلام فيها، إلا أن القول الرابع لا يتأتَّى هنا.
قوله: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} هذا الجارُّ متعلِّقٌ بتُكَبِّرُوا وفي {عَلَى} قولان:
أحدهما: أنها على بابها من الاستعلاءِ، وإنما تَعَدَّى فعلُ التكبير بها؛ لتضمُّنِهِ معنى الحمدِ.
قال الزَّمخشري: كأنَّه قيل: ولِتكَبِّروا اللَّهَ حَامِدِينَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ قال أبو حيان رحمه الله: وهذا منه تفسيرُ معنًى، لا إعراب؛ إذ لو كان كذلك، لكان تعلُّقُ عَلَى: بحَامِدِينَ التي قَدَّرها، لا بتُكَبِّرُوا، وتقديرُ الإعراب في هذا هو: وَلِتَحْمدُوا الله بالتكْبِيرِ على ما هَدَاكُم؛ كما قدَّره الناسُ في قوله: الراجز.
قَدْ قَتَلَ اللَّهُ زِيَادًا عَنِّي

أي: صَرَفَه باقتلِ عني، وفي قوله: الطويل:
وَيَرْكَبُ يَوْمَ الرَّوْعِ مِنَّا فَوَارِسٌ ** بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الكُلَى وَالأَبَاهِرِ

أي: متحكِّمُونَ بالبصيرةٍ في طعنِ الكُلَى.
والثاني: أنهى بمعنى لام العلَّة والأوَّل أولى لأنَّ المجازَ في الحرفِ ضعيفٌ.
و{ما} في قوله: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فيها وجهان:
أظهرهُما: أنها مصدرية، أي: على هدايته إيَّاكم.
والثاني: أنَّها بمعنى الذي قال أبو حيان وَفِيهِ بَعْدٌ مِنْ وَجْهَيْن:
أحدهما: حذفُ العائد، تقديرُه، هَدَاكُمُوهُ، وقدَّره منصوبًا، لا مجرورًا باللام، ولا بإلى لأنَّ حذفَ المنصوبِ أسهلُ.
والثاني: حذفُ مضافٍ يصحُّ به معنى الكلامِ على إتْباعِ الذي هَدَاكُم أو ما أشبَهَهُ. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (186):

قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال الفخر:

في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول: أنه تعالى لما قال بعض إيجاب فرض الصوم وبيان أحكامه: {وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] فأمر العبد بعد التكبير الذي هو الذكر وبالشكر، بين أنه سبحانه بلطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشكره فيسمع نداءه، ويجيب دعاءه، ولا يخيب رجاءه والثاني: أنه أمر بالتكبير أولًا ثم رغبه في الدعاء ثانيًا، تنبيهًا على أن الدعاء لابد وأن يكون مسبوقًا بالثناء الجميل، ألا ترى أن الخليل عليه السلام لما أراد الدعاء قدم عليه الثناء، فقال أولًا: {الذى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] إلى قوله: {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] وكل هذا ثناء منه على الله تعالى ثم شرع بعده في الدعاء فقال: {رَبّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} [الشعراء: 83] فكذا هاهنا أمر بالتكبير أولًا ثم شرع بعده في الدعاء ثانيًا.
الثالث: إن الله تعالى لما فرض عليهم الصيام كما فرض على الذين من قبلهم، وكان ذلك على أنهم إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم، فشق ذلك على بعضهم حتى عصوا الله في ذلك التكليف، ثم ندموا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن توبتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية مخبرًا لهم بقبول توبتهم، ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما كان دعاء الصائم مجانًا وكان هذا الشهر بالخصوص مظنة الإجابة للصيام ولمكان ليلة القدر وكان ذكر كبريائه سبحانه وتعالى مهيئًا لعباده للإحساس بالبعد فكان ربما أوقع في وهم أنه على عادة المتكبرين في بعد المسافة عن محالّ العبيد وأنه إن كان بحيث يسمع لم يكن لأحد منهم أن يسأله إلا بواسطة رفع هذا الوهم بقوله: {وإذا} دالًا بالعطف على غير مذكور أن التقدير: فإذا سألك عبادي عني فإني مع علو شأني رقيب على من أطاعني ومن عصاني {وإذا}. وقال الحرالي: لما أثبت الحق سبحانه وتعالى كتاب الصيام لعباده لما أرادهم له من إعلائهم إلى خبء جزائه وأطلعهم على ما شاء في صومهم من ملكوته بحضور ليلة القدر فأنهاهم إلى التكبير على عظيم ما هداهم إليه واستخلفهم في فضله وشكر نعمته بما خولهم من عظيم فضله وأظهر عليهم من رواء بركاته ما يدعو الناظرين لهم إلى سؤالهم عما نالوه من ربهم فيليحون لمن دونهم ما به يليق بهم رتبة رتبة؛ يؤثر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه فكأنما يتكلمان بلسان أعجم لا أفهم مما يقولان شيئًا إلى أن ينتهي الأمر إلى أدنى السائلين الذين هم في رتبة حضرة بعد فيبشرون بمطالعة القرب فقال: و{إذا} عطفًا على أمور متجاوزة كأنه يقول: إذا خرجت من معتكفك فصليت وظهرت زينة الله التي باهى بها ملائكته ليست زينة الدنيا التي يتمقتها أهل حضرته من ملائكته فإذا سألك من حاله كذا فأنبئه بكذا وإذا سألك من حاله كذا فأنبئه بكذا وإذا {سألك عبادي عني} أي هل أنا على حال المتكبرين من ملوك الدنيا في البعد عمن دونهم فأخبرهم أني لست كذلك.
ولما كان لا يسأل عن الشيء إلاّ إن كان معظمًا له متشوقًا إلى تعجيل الإخبار به كان الأنسب للمقام والأقرّ لعيون العباد والأزجر لأهل العناد تقريب الجواب وإخباره سبحانه وتعالى بنفسه الشريفة دون واسطة إشعارًا بفرط قربه وحضوره مع كل سائل فقال: {فإني} دون فقل إني، فإنه لو أثبت قل، لأوهم بُعدًا وليس المقام كذلك، ولكان قوله إني، موهمًا فيحتاج إلى أن يقال إن الله أو نحوه، ومع ذلك فلا ينفك عن إشكال؛ وإذا كان هذا التلطف بالسائلين فما ظنك بالسالكين السائرين! وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري ما معناه: الذين يسألون عن الجبال وعن اليتامى وعن المحيض وعن الأهلة ونحوها يجابون بالواسطة، وأما الذين يسألون عني فإني أرفع الوسائط بيني وبينهم. وقال الإمام قاضي القضاة ناصر الدين بن ميلق ما معناه: إنه سبحانه وتعالى لما كان قد تعرف إلى عباده بأفعاله وآياته وما ركز في العقول من معرفته كان حذف الواسطة في الإخبار عنه أنسب بخلاف الأهلة ونحوها فإن العقول لا تستقل بمعرفتها، فكان الإخبار عنها بواسطة الرسول الذي لا تعرف إلا من جهته أنسب. {قريب} فعيل من القرب وهو مطالعة الشيء حسًا أو معنى أي من طلبني بعقله وجدني وعرفني وإنما أرسلت الرسل زيادة في التعرف ورفعًا للحرج بسر التلطف، وإسقاط قل، أسرع في التعرف فهو أجدر بتعظيم الواسطة لأن الإسراع في الإجابة أقرب دلالة على صدقه في الرسالة. قال الحرالي: بشر أهل حضرة البعد بالقرب لما رقي أهل القرب إلى الوصول بالقرب فكان المبشر واصلًا وكان المتقاصر عن القرب مبشرًا به، ومعلوم أن قرب الله وبعد المخلوق منه ليس بعد مسافة ولا قرب مسافة، فالذي يمكن إلاحته من معنى القرب أن من سمع فيما يخاطب به خطاب ربه فهو قريب ممن كان ذلك الخطاب منه، ومن كان إنما يسمع الخطاب ممن واجهه بالخطاب في حسه ومحسوسه فسمعه ممن دون ربه كان بعيدًا بحسب تلك الواسطة من بعد دون بعد إلى أبعد البعد، ولذلك يعلن للنبي صلى الله عليه وسلم {إنما عليك البلاغ} [الرعد: 40] وكان أن ما يتلوه لأمته إنما هو كلام ربه يتلو لهم كلام ربهم ليسمعوه من ربهم لأمته حتى لا يكون صلى الله عليه وسلم واسطة بين العبد وربه بل يكون يوصل العبد إلى ربه، وللإشارة بهذا المعنى يتلى كلمة قل، في القرآن ليكون إفصاحًا لسماع كلام الله سبحانه وتعالى ممن سمع كائنًا من كان، وفي إشعاره إهزاز القلوب والأسماع إلى نداء الحج إثر الصوم، لأنه جعل تعالى أول يوم من شهور الحج إثر يوم من أيام الصوم، فكأن منادي الله ينادي يوم الفطر بالحج، ففي خفي إشارته إعلاء نداء إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي تقدم أساس أمر الإسلام على حنيفيته وملته، وليكون في هذه الآية الجامعة توطئة لذكر الحج لما تقدم من أن هذه السورة تنتظم جوامعها خلال تفاصيلها انتظامًا عجيبًا يليح المعنى لأهل الفهم ويفصله لأهل العلم ثم يحكم به على أهل الحكم قال: {أجيب} من الإجابة وهي اللقاء بالقول ابتداء شروع لتمام اللقاء بالمواجهة {دعوة الداع} ففيه إشعار بإجابة الداعي أي للحج عند خاتمة الصوم يعني لما بين العبادتين من تمام المناسبة، فإن حال الصوم التابع لآية الموت في كونه محوًا لحال البرزخ وحال الحج في كونه سفرًا إلى مكان مخصوص على حال التجرد كحال الحشر؛ قال: وجاء الفطر يعني بعد إكمال الصوم بما يعين على إجابة دعوة الوفادة على الله سبحانه وتعالى إثر الخلوة في بيت الله ليكون انتقالهم من بيت خلوته بالعكوف إلى موقف تجليه في الحج، وفيه تحقيق للداعي من حاله ليس الداعي من أغراضه وشهواته، فإن الله سبحانه وتعالى يجيب دعوة العبد إذا كان فيه رشد وإلا ادخرها له أو كفر بها عنه كما بينه صلى الله عليه وسلم.
ولما كان كل خلق داعيًا لحاجته وإن لم ينطق بها أشار تعالى إلى مقصد إظهار الدعاء مقالًا وابتهالًا فقال: {إذا دعان} ليكون حاله صدقًا بمطابقة حاله مقالًا، وفي قراءة الاكتفاء بكسرة {الداع} و{دعان} عن ياءيهما وقراءة تمكينهما توسعة القراءة بما تيسر على قبائل العرب بحسب ما في ألسنة بعضها من التمكين وما في ألسنة بعضها من الحذف {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر} [القمر: 17] وفي إجابته حجة عليهم بأن السيد إذا التزم إجابة عبده كان إجابة العبد لسيده أوجب التزامًا لاستغناء السيد وحاجة العبد. اهـ.